"جيوبوليتيك الظلام": أمريكا وفنزويلا
يُعاد رسم خريطة النفوذ العالمي اليوم ليس بحدود الجيوش الكبرى، بل بخطوط أنابيب التجارة غير الرسمية والشبكات المالية السرية التي تشكل ما يمكن تسميته "جيوبوليتيك الظلام". إن الصراع المعقد وطويل الأمد بين الولايات المتحدة وفنزويلا، حيث تستخدم واشنطن العقوبات المالية كأداة ضغط قصوى، وتستخدم كاراكاس اقتصاد الظل كدرع وحصن، يمثل نموذجاً ساطعاً لديناميكيات القوة الجديدة التي تهدد بتقويض الهيمنة الغربية التقليدية.
على مدى عقد من الزمان، سعت الولايات المتحدة إلى عزل نظام الرئيس نيكولاس مادورو مالياً بالكامل، استناداً إلى ثقتها بقوة الدولار والنظام المصرفي العالمي الذي تسيطر عليه. ومع ذلك، وبدلاً من الانهيار التام، أظهرت فنزويلا مرونة غير متوقعة. تكمن هذه المرونة في قدرتها على بناء "اقتصاد مقاومة" يعتمد على التحايل، التجارة المقايضة (Barter)، والتعاون مع قوى دولية منافسة.
"جيوبوليتيك الظلام" هنا هو الاستغلال الاستراتيجي للقنوات الاقتصادية خارج القوانين الدولية والأنظمة المالية الرسمية لتحقيق أهداف جيوسياسية. في حالة فنزويلا، الهدف هو البقاء في السلطة وإبطال مفعول العقوبات، مما يؤدي بالتبعية إلى إضعاف نفوذ أهم أدوات القوة الأمريكية.
أدت العقوبات الأمريكية المشددة، وخاصة تلك التي استهدفت شركة النفط الحكومية PDVSA، إلى فصل فنزويلا فعليًا عن السوق النفطية العالمية الرسمية. لكن بدلاً من وقف إنتاج النفط، تحول النظام الفنزويلي إلى آليات معقدة وغير رسمية لضمان تدفق الإيرادات:
الأسطول المظلم (Dark Fleet) تعتبر هذه الآلية جوهر "جيوبوليتيك الظلام" النفطي. يتمثل "الأسطول المظلم" في مجموعة من ناقلات النفط (غالباً قديمة أو مملوكة لشركات واجهة) تقوم بإيقاف تشغيل أجهزة الإرسال والاستقبال التلقائية (Transponders) لتجنب التعقب الملاحي (Ship-to-Ship Transfers). تشير التقارير الحديثة إلى أن فنزويلا تمكنت من الحفاظ على مستوى ثابت من الصادرات، غالباً ما يتجاوز التوقعات الرسمية، بفضل هذه الشبكة التي تنقل النفط إلى أسواق آسيوية. هذه العملية تقوض مباشرة القدرة الأمريكية على تتبع وعرقلة الشحنات.
ذهب الظل (Shadow Gold): بالإضافة إلى النفط، أصبح الذهب المستخرج من المناجم غير القانونية في قوس التعدين الفنزويلي الجنوبي (Arco Minero del Orinoco) عملة احتياطية بديلة للبلاد. يُصدر هذا الذهب غالباً عبر طرق تهريب معقدة عبر الحدود الكولومبية أو البرازيلية أو عبر تركيا ودول أخرى. يمثل الذهب ميزة حاسمة لأنه أصل غير قابل للتتبع رقمياً ولا يخضع لسيطرة نظام SWIFT، مما يجعله الوسيلة المفضلة لتسوية المعاملات مع الشركاء الدوليين المتلهفين للتحايل على العقوبات.
تجارة المقايضة السرية: أُعيد إحياء تجارة المقايضة (Barter Trade) كنظام أساسي. فنزويلا تتبادل النفط أو الذهب مع دول مثل إيران مقابل المكثفات اللازمة لتخفيف النفط الثقيل، أو مع الصين وروسيا مقابل المعدات العسكرية والغذائية والإمدادات الأساسية. هذه المبادلات لا تظهر في سجلات التجارة الرسمية، مما يجعلها خارج متناول المراقبة الأمريكية.
النتيجة المباشرة لنجاح "اقتصاد الظل" الفنزويلي هي إظهار حدود القوة المالية الأمريكية. لطالما كانت العقوبات أداة جيوسياسية فعالة لأنها تستغل اعتماد العالم على الدولار الأمريكي والشبكة المصرفية الغربية. لكن فنزويلا أثبتت أن هذا الاعتماد يمكن تجاوزه.
تضاؤل فعالية الدولار، فكل صفقة تُسوى بعملة غير الدولار (اليوان الصيني أو الروبل الروسي) هي ضربة رمزية ومادية لنفوذ الدولار الأمريكي كنظام احتياطي عالمي. فنزويلا، مدعومة من بكين وموسكو، تشجع على استخدام هذه العملات البديلة في التجارة الثنائية. ورغم فشل عملة "بيترو" الحكومية، إلا أن استخدام العملات المشفرة الخاصة والمستقرة (Stablecoins) في التعاملات غير الرسمية داخل فنزويلا ومع شركائها الدوليين يمثل خطراً حقيقياً على قدرة الولايات المتحدة على تجميد الأصول أو تتبع تدفقات رأس المال.
باتت الرسالة الجيوسياسية واضحة، يمكن لدولة أن تنجو من الفصل التام عن النظام المالي الغربي إذا كانت على استعداد للانخراط بشكل كامل في جيوبوليتيك الظلام. ونجاح فنزويلا في التكيف لا يعكس فقط براعة داخلية، بل يعكس أيضاً ديناميكيات القوة الجديدة في العالم والتي تتميز بنشوء محور مضاد يقاوم الهيمنة الأمريكية.
تعتبر العلاقة بين طهران وكاراكاس مثالاً ساطعاً على التضامن الجيوسياسي لكسر العقوبات. كلاهما خاضع لعقوبات أمريكية قاسية، وقد طورت الدولتان شبكة لوجستية مشتركة لنقل النفط والمنتجات البترولية. قدمت إيران خبرتها في تقنيات التحايل على العقوبات (التي أتقنتها على مدى عقود)، حيث زودت فنزويلا بالوقود وقطع الغيار الضرورية لتشغيل مصافيها المتعثرة. هذا التعاون يشكل تحالفاً فعّالاً ضد العقوبات ويوسع النفوذ الإيراني إلى الفناء الخلفي للولايات المتحدة.
تستمر كل من روسيا والصين في تقديم الدعم المالي والدبلوماسي، لا من أجل مصالح فنزويلا فحسب، بل من أجل تقويض النموذج الأمريكي للهيمنة القسرية. روسيا تعمل على توفير الغطاء الأمني والدبلوماسي في الأمم المتحدة وتدعم الترتيبات المالية غير الدولارية، والصين لا تزال أكبر مشتر للنفط الفنزويلي عبر وسطاء وتستمر في تمويل المشاريع الاستراتيجية، حيث تعتبر فنزويلا جزءاً من استراتيجيتها الأوسع لإنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب. وهذه التحالفات تشير إلى أن ميزان القوى يتحول، القوى العظمى المنافسة أصبحت مستعدة لاستخدام شبكات "اقتصاد الظل" كأداة شرعية للتدخل في الشؤون الإقليمية للولايات المتحدة.
إن تجربة فنزويلا في ظل "جيوبوليتيك الظلام" تقدم درساً جيوسياسياً مؤلماً لواشنطن، استخدام أدوات القوة التقليدية في عالم غير متجانس يولد آليات مقاومة لا تقل قوة. لقد نجح النظام الفنزويلي في تحويل نقاط ضعفه (العقوبات الدولية) إلى نقاط قوة استراتيجية عبر التجارة غير الرسمية والتعاون المضاد، مما أتاح له: البقاء في السلطة رغم الضغوط القصوى.
في النهاية، لا يتعلق الأمر فقط بنظام في كاراكاس، بل بتغير هيكلي في موازين القوى الدولية. فكلما ازداد لجوء القوى الكبرى إلى العقوبات، ازدادت قوة شبكات اقتصاد الظل العالمية، مما يوسع من "جيوبوليتيك الظلام" كآلية للتحرر الاقتصادي والسياسي، ويسرّع من الانتقال نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب وأكثر تعقيداً وأقل خضوعاً للقواعد. هذا التحول سيستمر في إعادة تعريف طبيعة القوة والنفوذ في القرن الحادي والعشرين.