لماذا هدمت غزة؟
لم يكن هدم غزة حدثاً عشوائياً غير مدروس، بل كان خطوة محسوبة لاقت قبولاً ضمن تصور واسع لإعادة تشكيل قطاع غزة سياسياً وأمنياً واقتصادياً. لأن المشروعات المخططة بعد الحرب كانت ترسم صورة مستقبلية طموحة لكنها بالكامل تعتمد على استقرار أمني طويل المدى وقدرة على تنفيذ خطط معقدة في ظل واقع مأهول بالسكان المتضررين. لذا كان من الضروري في سبيل تحقيق تلك المشروعات الاقتصادية أن تتحول غزة إلى مدينة بلا ملامح بعد موجات متتابعة من القصف لهدم المنازل والطرق والمستشفيات والمدارس وكل ما يشكل حياة طبيعية للبشر.
بكل تأكيد لم يكن حجم الدمار الذي حدث في غزة مجرد نتيجة جانبية للحرب بل جاء مرتبطا برؤية واسعة تسعى لإعادة صياغة الواقع السياسي والأمني والاقتصادي في واحدة من أكثر المناطق حساسية في الشرق الأوسط. وكان الهدف الأول الذي تم رصده هو دفع السكان نحو النزوح. فعندما تسقط البيوت فوق رؤوس أصحابها ويصبح الحي مهجورا لا يجد المواطن سببا مقنعا للعودة إليه. دون الاحتياج إلى اتفاقيات تهجير معلنة بل يصنعه الدمار وحده. الرؤية الأمنية أرادت خلق وضع سكاني جديد يقلل أي قدرة مستقبلية على تشكيل كتلة مقاومة صلبة داخل القطاع. النزوح هنا لم يعد قرارا سياسيا بقدر ما هو حدث ميداني تدفع إليه الظروف.
أما الهدف الثاني والذي تحقق بالفعل هو تفكيك البنية التحتية التي اعتمدت عليها غزة لعقود. الكهرباء والمياه والاتصالات وشبكات الطرق تعرضت لانهيار كامل. هذا الانهيار يعطل أي قدرة على إدارة حكم أو تشغيل مؤسسات أو تنظيم نشاط عسكري أو مدني. البناء يمكن أن يعود لكن البنية التحتية تحتاج زمنا واستقرارا لا تؤمنه الظروف الحالية. بينما الهدف الثالث والذي حاولت الرؤية الأمنية فرضه على القطاع منذ سنوات لكنها اصطدمت بحقائق جغرافية معقدة، منها الأزقة الضيقة والمخيمات المتلاصقة والتي شكلت بيئة مثالية استخدمتها المقاومة مع وجود الأنفاق، لذا كان من الضروري أن تسعى الرؤية الأمنية لرسم خريطة جديدة تتيح لها السيطرة والرصد عبر مناطق عازلة وممرات واسعة ونقاط مراقبة.
هذه الخريطة لا يمكن تنفيذها فعلياً إلا بعد تسوية غزة بالأرض. وعلى الرغم من أن الرؤية الأمنية تبدو للوهلة الأولى أنها هى المحرك الأبرز إلا أن البعد الاقتصادي لا يغيب عن هذا المشهد المهول. حيث تظهر الخطط المقترحة "مصائب قوم عند قوم فوائد" عند إعادة بناء غزة وتحويل بعض أجزاء القطاع إلى مناطق سياحية وصناعية مستقبلية.
مخططات هذه الرؤية الاقتصادية تصف غزة بأنها ستصبح “ريفييرا الشرق الأوسط” بعد إنشاء مدن ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي ومناطق سكنية متعددة الاستخدامات وحدائق غناء ومناطق خضراء ومنتجعات سياحية فخمة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كما تشمل الرؤية الاقتصادية أيضاً إنشاء مناطق صناعية ومراكز بيانات ومشروعات تكنولوجيا وأيضاً شركات صناعة سيارات كهربائية ومحطة تحلية مياه ومصادر طاقة شمسية لتأمين المياه والكهرباء للمنطقة الصناعية.
تلك الرؤية الاقتصادية لم تغفل أن تتضمن دفع تعويضات للسكان مقابل مغادرتهم طوعاً مع إمكانية توطينهم في بلدان أخرى. كل هذه المخططات الأمنية والاقتصادية هى التي مثلت طموحاً كبيراً لذا كان "لازم يجيبوا عاليها واطيها" بغرض إعادة تشكيله من جديد.
كل تلك الأفكار والخطط والمشروعات تواجه الآن تحديات ضخمة لم تكن في الحسبان، أهمها على الإطلاق الأوضاع الأمنية نفسها، ثم حجم الدمار الحالي الذي لم يكن مقدر، ثم الغياب التام لمدى استفادة السكان الأصليين من هذه المشروعات واستبعادهم تماماً. الرؤية السياسية الحالية: "العايط في الفايت نقصان عقل" "واللي حصل حصل وغزة اتهدت على دماغ أصحابها خلاص" "واللي عاوز يشارك في تعميرها لازم يشارك في نزع سلاح المقاومة ويساعد في تهجير أهلها منها" .