أغنياءُ العرب وفلسفة التّبرع والعطاء

20 نوفمبر 2025
قنوات وأهداف عدة للتبرع في مختلف المجتمعات (وسائل التواصل)
قنوات وأهداف عدة للتبرع في مختلف المجتمعات (وسائل التواصل)
Nabilsaleh-69@hotmail.com
نبيل علي صالح
تابع الكاتب عبر :

بكلّ احترامٍ وتقدير لأغنيائنا المحليين، أتساءل: أين هم من نظرائهم في الدول الأخرى في مجال العطاء والإسهام المجتمعي بالتنمية والتطور والبناء؟ هل ينفقون من أموالهم على طريق تقدم مجتمعاتهم وازدهارها العلمي والعمراني خاصة في مجالات البحوث العلمية مثلاً؟ وهل يخصصون جزءاً من تلك الأموال أيضاً لتعميق أواصر المودة والإخاء والتكافل الاجتماعي في بلدانهم من خلال الإنفاق على مشاريع خيرية إنسانية في شتى المواقع؟. 

حقيقة عندما يتعلق الأمر بأعمال الخير وسلوكيات الإنفاق العطائي المجتمعي إذا صح التعبير، تختلف الطرق والأساليب، لكن الهدف والمضمون الإنساني يبقى واحداً لا تغيره الأيام. أما ما يختلف فهو شكل التبرع والعطاء فقط. فبينما تشهد قاعات المزادات في الغرب تبرعات بمليارات الدولارات لدعم فعاليات البحوث العلمية في الجامعات ومراكز البحوث الكبرى، نرى في عالمنا العربي أوقافاً خيرية تمتد جذورها عبر القرون لتخدم المجتمعات. فما هي أبرز الفروقات في ثقافة التبرع بين النخب الثرية في العالمين العربي والغربي، وأيها أكثر تأثيراً؟.

لقد أضحت ثقافة التبرع لدى الآخرين منهجاً مؤسسياً راسخاً له ثقافته وآلياته وأرضيته، بينما نجد في مجتمعاتنا العربية نماذج متباينة ومتناقضة؛ حيث أن بعض الأغنياء زاهد في ثروته، والبعض الآخر يستغل تبرعاته للمحتاجين لأغراض أخرى نفعية سياسية أو إعلامية أو حتى اقتصادية. وبين وقت وآخر نجد كيف أن وسائل الإعلام العالمية تنقل لنا الكثير من الروايات والأخبار عن تبرعات ضخمة يقوم بها أصحاب رؤوس الأموال العالميين من أصحاب الشركات العملاقة (الصناعية والمعلوماتية وغيرها) من أجل إسناد ودعم مؤسسات بحثية تعنى بدراسة أمراض مستعصية كالسرطان والسكري وغيرها. وقد تصل هذه التبرعات، كما في حالة بيل غيتس مثلاً، إلى مليارات الدولارات، مصحوبة بتأسيس مؤسسات خيرية كبرى أيضاً.

طبعاً نحن لا نقصد من هذا العرض إجراء مقارنة مباشرة بين حجم تبرعات الأغنياء العرب ونظرائهم العالميين، ولا نسعى لتشويه صورة أغنيائنا، أو التقليل من شأنهم ومواقعهم وألمعيتهم، وكثير منهم من أصحاب الإمبراطوريات المالية والعقارية الضخمة بطبيعة الحال. فبدون شك، يقدم العديد منهم تبرعات سخية لمشاريع خيرية نبيلة، ويدعم جمعيات خيرية مختلفة، وينفق في مختلف مواقع وسبل البر والإحسان. لكن تركيزنا هنا ينصب على فئة أخرى من الأغنياء ممن لا يحسنون توجيه تبرعاتهم بما يخدم تنمية مجتمعاتهم ومساعدتها في النهوض والحضور، مما يثير تساؤلات عديدة حول، آليات تبرعهم، والمعايير المتبعة في صرف الأموال، ومدى فعالية هذه التبرعات واستمرارها واستدامتها. 

إن ما نطرحه هنا هو وجهة نظر قابلة للنقاش، فصاحب الثروة (والإنسان مسلط على ماله وثروته) حرّ في التصرف بما يملك من أموال اكتسبها من أعماله واستثماراته المتنوعة، والتي تساهم -بدون شك- في تنمية البلاد وازدهارها. وهو حر أيضاً في اختيار مجالات برّه وإحسانه. لكن السؤال الجوهري: لماذا لا تُوجه نسبة من تبرعات أغنيائنا لدعم البحوث العلمية والتنمية البشرية، على غرار ما يحدث في الدول المتقدمة؟ ولماذا لا يستثمر الأغنياء العرب في دعم البحث العلمي والتقني في جامعاتنا التي تعاني من ضعف الإمكانيات وقلة الحوافز؟. هل يعود هذا إلى عدم ثقة الأغنياء بإمكانيات بلدانهم وقدرات باحثيهم؟ أم أن رأس المال المحلي -كما يُحلّل في الأدبيات الاقتصادية- يميل إلى المشاريع الآمنة ذات العائد السريع، بعيداً عن مشاريع البحث والتطوير ذات المخاطرة والعوائد المستقبلية؟.

لا شك أنَّ مساعدةَ المحتاجين عمل نبيل، لكن الأكثر نبلاً هو الاستثمار في بناء بنية تحتية بحثية قوية، والأجمل من دفع فواتير العلاج للأفراد هو المساهمة في تأسيس منظومة بحثية متكاملة. إننا نعتقدُ أنّ نهضةَ الأمم المتقدمة لم تتحقق إلا بمشاركة أصحاب رؤوس الأموال في دعم البحث العلمي والتطوير التقني. فهل يقدّمُ أغنياؤنا العرب على هذه الخطوة الجريئة؟ وهل يستثمرونَ في دعم مراكز البحث العلمي في بلدانهم؟. وبدلاً من هجرة الكفاءات العلمية للخارج، لم لا نوفر لها البيئة المناسبة للعمل والإبداع في أوطاننا؟ فهذا الاستثمار هو ضمانة حقيقية لتطور الدول وازدهار المجتمعات. 

مع الإشارة إلى أهمية ما يقوم به كثير من الأغنياء العرب في تبرعاتهم التي تأخذ الطابع الفردي لا المؤسسي، فإنه يمكنهم الاستفادة من "الاستراتيجية المؤسسية" الغربية لتعظيم أثر تبرعاتهم وضمان استدامتها، والوصول لفائدتها وثمارها المجتمعية العامة، مع الحفاظ على الروح الإنسانية والدافعية الدينية الأصيلة التي تميزهم ربما عن التبرع بالمفهوم الغربي. خاصة وأننا نعيش في عصر بات يتسم بتعقد التحديات المجتمعية، إذ لم يعد العطاءُ الفردي كافياً لمواجهة متطلبات التنمية المستدامة، الأمر الذي يفرض حضور ثقافة التبرع المؤسسي كفلسفة عصرية تحوّل العطاء من ردود أفعال عاطفية وقتية آنية إلى استثمار استراتيجي حقيقي في رأس المال البشري والبنية المجتمعية، يتميز بالاستدامة والتخطيط والتنظيم العلمي، حيث يتحول من مساعدات آنية إلى برامج تنموية طويلة الأمد. 

بدلاً من توزيع المساعدات العينية والتوسع في التبرعات الفردية التقليدية، تركز المؤسسات الخيرية على تمويل المشاريع القادرة على خلق تأثير مضاعف في تطور المجتمعات. فمثلاً: عندما تُوجّه التبرعات لإنشاء مركز تدريب مهني متطور، لا نقتصر على مساعدة متدربين حاليين، بل إننا نسهم في تأهيل قوى عاملة منتجة تدعم الاقتصاد لسنوات قادمة. والعمل المؤسسي على صعيد التبرع، هو ما يضمن تحقيق أقصى الاستفادة من موارد التبرع الكثيرة والمتعددة المنافذ، وذلك عبر آليات دقيقة تشمل إجراء دراسات جدوى للمشاريع، ووضع مؤشرات أداء قابلة للقياس والمعايرة، وإصدار تقارير دورية توضح أوجه الصرف وسبله، ودرجة تحقيق الأهداف المنشودة والموضوعة مسبقاً.

هذه الشفافية لا تعزز الثقة فحسب، بل تتيح للمتبرعين رؤية الأثر الحقيقي لمساهماتهم وتبرعاتهم، مما يحفز استمرار العطاء وتوسيعه. إنّ ثقافةَ التبرع وفلسفة العطاء المؤسسي تعدُّ ركيزةً أساسية لبناء مجتمعات مزدهرة ودول متقدمة، فهي تحول رأس المال المالي إلى استثمار استراتيجي في الإنسان والبنية التحتية المجتمعية. وبإمكاننا من خلال تعميم هذه الثقافة وتطوير آلياتها، تحقيق قفزة نوعية في مسيرة التطور والازدهار، وبناء مستقبل أكثر إشراقاً للأجيال القادمة.