السوق المصري بين الوهم والانهيار الهادئ
هل تشهد مصر موجة جديدة من تراجع أسعار السيارات؟ سؤال يبدو في ظاهره بسيطا، لكنه في جوهره يكشف أزمة أعمق بكثير من مجرد حركة أسعار أو تصحيح مؤقت. فالسوق المصري لم يعد يتحدث بلغة العرض والطلب كما عرفناها في الكتب، بل بلغة الخوف والجشع والتردد، تلك اللغة التي لا تصنع اقتصادا مستقرا، بل واقعا مضطربا يبحث فيه الجميع عن طوق نجاة شخصي. إن ما يحدث في سوق السيارات ليس مجرد انخفاض أو ارتفاع في الأسعار، بل هو انعكاس لحالة من فقدان التوازن البنيوي في السلوك الاقتصادي للمجتمع كله.
المستهلك المصري تغيّر، وربما أصيب بما يمكن تسميته “الإرهاق الاستهلاكي”. سنوات من التضخم، وتعويم متكرر للجنيه، وارتفاع في الأسعار بلا سقف ولا منطق، جعلته يعيد التفكير في كل قرار شرائي. لم يعد يندفع نحو امتلاك سيارة أو شقة كما كان من قبل، بل أصبح يسأل نفسه أولا: هل أحتاج فعلًا إلى هذه السلعة؟ وهل ما أملكه من مال يستحق أن أضعه في سوق لا يعرف قيمة ثابتة لشيء؟ لقد تحوّل الاستهلاك من سلوك طبيعي إلى معركة بقاء، فيها يحاول المواطن أن يحافظ على ما تبقى من قدرته الشرائية، وعلى إحساسه بالأمان الذي تآكل ببطء.
في المقابل، لا يزال كثير من التجار يتصرفون كما لو أن شيئًا لم يتغير. يراهنون على أن الطلب سيعود، وأن المستهلك مهما صبر سيعود في النهاية إلى الشراء. لكنهم لا يدركون أن ما تغيّر ليس السعر فقط، بل الوعي نفسه. لقد فقد المستهلك القديم حماسه، ولم يعد يرى في الشراء رمزًا للمكانة الاجتماعية أو وسيلة للطمأنينة، بل عبئًا ماليا قد يجرّه إلى الخطر. ومن ثم، فإن التاجر الذي ينتظر اندفاع المستهلك سيجد نفسه أمام جمهورٍ جديد: أكثر عقلانية، أقل عاطفة، وأكثر قدرة على قول “لا”.
إذا كان ما نشهده في سوق السيارات هو بداية التحول، فإن ما يحدث في سوق العقارات قد يكون الصدمة الكبرى المقبلة. فالأرقام التي تُعلن يوميا لم تعد تعبّر عن واقع اقتصادي مستدام، بل عن فقاعة تُغذّي نفسها بالوهم. أسعار الشقق تجاوزت القدرة الحقيقية للمجتمع، والمتر لم يعد يقاس بالإنتاج أو التكلفة، بل بالخيال. لم يعد المسكن حاجة أساسية، بل استثمارا للمضاربة يراهن على ارتفاع مستمر، في وقت لا يرتفع فيه دخل المواطن بالوتيرة نفسها.
إن هذا الانفصال بين الأسعار والدخل، بين القيمة والحاجة، هو ما يجعل السوق كله يبدو كمن يقف على حافة انهيار صامت. في جوهر الأمر، ما يحدث في السوق المصري ليس حركة أسعار، بل انفلات في القيم الاقتصادية. تحوّل البيع والشراء إلى صراع على النجاة، لا تحكمه قواعد السوق ولا منطق العدالة، بل غريزة الجشع التي وجدت فراغًا فتمددت.
لقد فقد السوق شيئًا من روحه، وتشوّهت العلاقة بين السعر والقيمة. لم تعد الفاتورة تعكس منطق السوق بقدر ما تعكس اضطرابًا في ميزان العدالة الاقتصادية. أصبحت الأسعار تتحرك بقرارات فردية أكثر مما تتحرك بقوى العرض والطلب، وكأن الضرورة أصبحت المبرر الدائم لكل تجاوز. في هذه الحالة، لا يعود السوق ساحة تنافس، بل مساحة للنجاة الفردية، يبرر فيها كل طرف ما يفعل بأنه “اضطرار” لا اختيار.
ومع ذلك، فإن التاريخ الاقتصادي يعلّمنا أن الأسواق لا تبقى معلّقة إلى الأبد. فحين تفقد الأسعار صلتها بالواقع، وحين يتجمّد الطلب رغم كل محاولات الإغراء، يبدأ ما يُعرف بـ “الانهيار التصحيحي”. والانهيار هنا لا يعني الدمار، بل عودة السوق إلى حجمه الطبيعي. فالفقاعات لا تنفجر إلا عندما يختفي الأكسجين، والمستهلك اليوم ببساطة قرر أن يسحب هذا الأكسجين من السوق. لم يعد يلهث وراء العروض، ولا يخضع لابتزاز الأسعار، بل بدأ يمارس أذكى أشكال المقاومة: الامتناع. هذه اللحظة، حين يتوقف الشراء الجماعي، هي لحظة إعادة التقييم الكبرى. عندها فقط سيكتشف التجار أن أرباحهم السريعة كانت مجرد سراب، وأن ما بُني على الجشع لا يمكن أن يستمر.
ربما يكون الانهيار، بكل ما يحمله من خوف وألم، هو بداية مرحلة جديدة أكثر عدلًا واتزانًا. فالسوق الذي يسقط لأنه فقد توازنه، هو نفسه الذي سيُبنى من جديد على أسس أكثر عقلانية. حين يدرك الجميع أن الربح لا يأتي من استنزاف المستهلك، وأن القيمة لا تُخلق من الاحتكار، ستعود الثقة، وسيعود معها التوازن. فالثقة هي العملة الوحيدة التي لا تفقد قيمتها بالتعويم.
إن ما يمرّ به السوق المصري اليوم ليس نهاية الطريق، بل امتحان حقيقي لنضجنا الاقتصادي. لن يعود الاستقرار بمجرد تصريحات أو نشرات أسعار، بل حين يشعر المواطن أن ما في جيبه يكفيه لما يحتاجه، وأن الجنيه الذي يحتفظ به لا يذوب مع طلعة الشمس. حينها فقط يمكن القول إن السوق تعافى، لا بالأرقام، بل بالثقة. وعندها لن يكون السؤال: هل ستنخفض أسعار السيارات؟ أو متى تصحح العقارات مسارها؟ بل سيكون السؤال الأعمق والأصدق: هل بدأ السوق المصري أخيرًا يتصالح مع واقعه؟