الرؤية الفرنسية لإصلاح مجلس الأمن
في خطابه أمام الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 25 سبتمبر 2024، طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رؤية تتجاوز الطابع الإجرائي لإصلاح مجلس الأمن الدولي. إذ أكد أن مجرد إعادة تشكيل تركيبة مجلس الأمن لا تكفي لتعزيز فعاليته، بل يتعين أن يصاحب ذلك إصلاح جوهري في آليات عمله، ولا سيما فيما يتعلق باستخدام حق الفيتو.
دعا ماكرون إلى ضرورة وضع قيود على ممارسة الفيتو في حالات الفظائع الجماعية، مثل الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، معتبرا أن استمرارية الجمود في مثل هذه القضايا يقوض الشرعية الأخلاقية للمجلس ويضعف ثقة المجتمع الدولي فيه. كما شدد ماكرون على أن الإصلاح البنيوي ينبغي أن يتضمن توسيع نطاق العضوية الدائمة ليعكس الواقع الجيوسياسي الراهن. وأوضح أن فرنسا تدعم إدماج قوى رئيسية مثل ألمانيا واليابان والهند والبرازيل في العضوية الدائمة، إضافة إلى منح القارة الإفريقية مقعدًا أو مقعدين تختارهما بنفسها لضمان التمثيل العادل. فهذا التوسع في نطاق العضوية من وجهة نظره، بات ضرورة استراتيجية لتصحيح اختلال التوازن التمثيلي في المجلس منذ نشأته، ولإضفاء شرعية أكبر على قراراته بما يجعله أكثر قدرة على التعامل مع التحديات الدولية المعاصرة.
والحقيقة، يعد مجلس الأمن الدولي الركيزة الأساسية في النظام الدولي المعاصر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ أسند إليه ميثاق الأمم المتحدة المسؤولية الأساسية عن حفظ السلم والأمن الدوليين. غير أن التوازنات التي صاغت تركيبته عام 1945 لم تعد تعكس بدقة واقع العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين. فالعالم اليوم يشهد صعود قوى إقليمية جديدة، وتزايد نفوذ الدول النامية، وتحول طبيعة التهديدات من نزاعات تقليدية بين الدول إلى أزمات إنسانية عابرة للحدود وإرهاب وجرائم بيئية وصحية. ومع هذا التحول، تعاظمت المطالبات بإصلاح مجلس الأمن ليصبح أكثر تمثيلًا وشرعية.
من بين أبرز الرؤى المطروحة على الساحة الدولية، تبرز الرؤية الفرنسية التي تسعى إلى المواءمة بين المحافظة على فعالية المجلس من جهة، وتعزيز شرعيته عبر تمثيل عادل وتقييد إساءة استعمال حق الفيتو من جهة أخرى. والحق، أن هذه الرؤية تنبع من إدراك فرنسا، كعضو دائم في المجلس، بأن الدفاع المطلق عن الامتيازات التاريخية قد يضعف المنظمة ذاتها، ويجعلها عرضة لفقدان ثقة الدول الأعضاء، وخاصة دول الجنوب التي ترى في المجلس صورة لهيمنة القوى الخمس الكبرى.
وغني عن البيان، أن الموقف الفرنسي من قضية الإصلاح ليس وليد اللحظة، بل هو حصيلة مسار طويل من النقاشات التي بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي عقب انتهاء الحرب الباردة. فمع اتساع عضوية الأمم المتحدة، بدأت التساؤلات حول مدى عدالة تمثيل المجلس وقدرته على اتخاذ قرارات ملزمة للجميع وهو محكوم بتركيبة مغلقة. وقد وجدت فرنسا في هذه النقاشات فرصة للحفاظ على مكانتها الدولية عبر طرح إصلاحات مدروسة تعكس طموحها في لعب دور الوسيط بين الشمال والجنوب، وبين القوى التقليدية والدول الصاعدة.
ساهم هذا التوجه في ترسيخ صورة فرنسا كدولة تسعى إلى إصلاح تدريجي واقعي يوازن بين الشرعية والفعالية. ومن أبرز ملامح الرؤية الفرنسية إصرارها على توسيع عضوية المجلس، سواء الدائمة أو غير الدائمة. ذلك أنها تدعم انضمام ألمانيا باعتبارها شريكًا أوروبيًا مهمًا وركيزة الاستقرار في الاتحاد الأوروبي، وانضمام اليابان والهند والبرازيل لما تملكه من مقومات اقتصادية وديمغرافية تجعلها جديرة بعضوية دائمة في المجلس. كذلك، ترى فرنسا أن التمثيل الدائم لإفريقيا أصبح ضرورة استراتيجية وأخلاقية، نظرا لأن القارة السمراء تمثل ثلث أعضاء الأمم المتحدة، فضلًا عن أن معظم الأزمات المطروحة على جدول أعمال المجلس ذات صلة مباشرة بالقارة.
من هنا، تؤيد باريس منح إفريقيا مقعدًا أو مقعدين دائمين بما يعكس وزنها الحقيقي في النظام الدولي. كما تدفع فرنسا باتجاه زيادة المقاعد لتوسيع نطاق المشاركة، ما يسمح بتمثيل أكبر للدول النامية وإدماج أصوات جديدة في عملية صنع القرار الدولي. غير أن إصلاح العضوية وحده لا يكفي ما لم يُعالج الخلل الأكبر المرتبط بحق الفيتو. فالفيتو الذي وُضع عام 1945 ليعكس توازن القوى بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، تحول إلى أداة شلّت قدرة المجلس على التدخل في أزمات إنسانية خطيرة، كما حدث في سوريا أو فلسطين. لذا، أطلقت فرنسا منذ عام 2013 مبادرة تقوم على التعليق الطوعي لاستخدام الفيتو في حالات الفظائع الجماعية، مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب واسعة النطاق. وقد وجدت هذه المبادرة صدى إيجابيًا لدى العديد من الدول، إلا أن بعض الأعضاء الدائمين، خاصة روسيا والصين، رفضوا الانخراط فيها خشية أن تحد من قدرتهم على المناورة الاستراتيجية.
ومع ذلك، فإن المبادرة الفرنسية تظل محاولة فريدة للتوفيق بين واقع استحالة إلغاء الفيتو من جهة، وحاجة المجتمع الدولي إلى ضمان ألا يُستخدم هذا الامتياز لعرقلة حماية المدنيين من جهة أخرى. ولعل ما يميز الطرح الفرنسي هو الطابع التدريجي والتوافقي. فباريس تدرك أن أي تعديل لميثاق الأمم المتحدة يحتاج إلى موافقة ثلثي الدول الأعضاء، بما فيهم الأعضاء الدائمون أنفسهم الذين يصعب إقناعهم بالتخلي عن امتيازاتهم. لذلك تفضل فرنسا التركيز على تحقيق مكاسب جزئية متراكمة، مثل زيادة المقاعد غير الدائمة أو تطوير أساليب عمل المجلس أو الدفع نحو التزام طوعي بتقييد الفيتو.
هذه الإصلاحات الجزئية قد تبدو متواضعة، لكنها في المنظور الفرنسي أفضل من المطالبة بإصلاح شامل قد يفشل كليًا بسبب التعقيدات الإجرائية والسياسية. وتعكس هذه البراغماتية إدراك فرنسا أن بقاء المجلس فعالًا، ولو بشكل نسبي، أفضل من تعطيله أو تقويض شرعيته بفعل المطالب غير الواقعية. ومع ذلك، تواجه الرؤية الفرنسية عقبات جدية. فالمصالح المتعارضة للأعضاء الدائمين تجعل التوافق صعبًا للغاية حول عملية الإصلاح.
الولايات المتحدة مثلًا لا تُبدي حماسة لتقييد الفيتو خوفًا من المساس بحريتها في حماية مصالحها الاستراتيجية وحليفتها إسرائيل، في حين ترى روسيا والصين أن أي تنازل بشأن الفيتو يقوض قدرتيهما على مواجهة الضغوط الغربية. أما بريطانيا، فهي تميل إلى دعم المبادرة الفرنسية سياسيًا لكنها تتحفظ عليها عمليًا خوفًا من إضعاف امتيازاتها الخاصة. وهذه الانقسامات تزيد من صعوبة الموقف الفرنسي، ففرنسا من جهة تريد تعزيز مصداقية الأمم المتحدة، ومن جهة أخرى لا تستطيع فرض رؤيتها دون دعم بقية الأعضاء الدائمين.
المبادرة الفرنسية تبدو محاولة طموحة لكنها ليست سهلة التحقيق، إذ يتوقف نجاحها على قدرة باريس على حشد تأييد واسع من الدول النامية والقوى الإقليمية الصاعدة، ما قد يضع ضغوطًا سياسية وأخلاقية على بقية الأعضاء الدائمين. كما يتطلب الأمر نشاطا كبيرا للدبلوماسية الفرنسية داخل الأطر متعددة الأطراف، كالاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي ومجموعة العشرين، لبناء تحالف دولي ضاغط. فإذا ما تمكنت فرنسا من ذلك، فقد تتحول رؤيتها إلى نقطة انطلاق لإصلاح تدريجي لمجلس الأمن يجعل منه هيئة أكثر شرعية في القرن الحادي والعشرين.
خلاصة القول، إن الرؤية الفرنسية لإصلاح مجلس الأمن تعكس مقاربة واقعية توازن بين طموح التغيير وضرورات الاستقرار. فهي تدعو إلى توسيع العضوية لتشمل قوى ناشئة وإفريقية، وتطرح آلية لتقييد استخدام الفيتو في الأزمات الإنسانية، وتفضل الإصلاح التدريجي التوافقي على القطيعة الشاملة. ومع أن هذه الرؤية تواجه عراقيل كبيرة بفعل مقاومة بعض القوى الكبرى، فإنها تظل من بين الطروحات الأكثر عقلانية وواقعية في مسار الإصلاح الأممي. وإذا ما نجحت فرنسا في بناء تحالفات واسعة لدعمها، فإنها قد تساهم في تشكيل مجلس للأمن الدولي أكثر عدالة وتمثيلًا وفعالية، قادر على مواجهة تحديات النظام الدولي المتغير بروح من المسؤولية الجماعية.