نهاية "ثقافة الترحيب الألمانية"

19 نوفمبر 2025
القوانين الألمانية بشأن الهجرة ازدادت صعوبة خلال السنوات الأخيرة (غيتي)
القوانين الألمانية بشأن الهجرة ازدادت صعوبة خلال السنوات الأخيرة (غيتي)
scorpions_t@hotmail.com
تامر غزال
تابع الكاتب عبر :

في أعماق التاريخ الأوروبي الحديث، تبرز ألمانيا كرمز للانفتاح والتسامح، خاصة في لحظات الأزمات الإنسانية. كانت عام 2015 نقطة تحول ساحرة، حين فتحت المستشارة أنجيلا ميركل قبل عقد من الزمن أبواب البلاد أمام مئات الآلاف من اللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان، معلنةً شعار "نحن نستطيع" (Wir schaffen das). 

"ثقافة الترحيب" لم تكن مجرد سياسة عابرة، بل كانت تعبيراً عن روح ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، روح تسعى للتكفير عن ماضيها وتبني مستقبلاً يعتمد على التنوع والاندماج. متطوعون يرحبون بالقادمين في محطات القطارات، وبرامج تعليمية سريعة، ودعم اجتماعي واسع؛ كل ذلك رسم صورة وردية لأمة تفتح ذراعيها للعالم. لكن مع حلول نهاية 2025، يبدو أن هذه الصورة قد بدأت في التلاشي تدريجياً، كأنها لوحة فنية تتعرض لعوامل الزمن القاسية. 

التحول لم يكن مفاجئاً، بل جاء مدفوعاً بتيارات سياسية واجتماعية عميقة، مدعومة بأرقام وأحداث واقعية. في عام 2015، استقبلت ألمانيا أكثر من مليون لاجئ، مما أدى إلى ضغوط هائلة على البنية التحتية، السكن، والخدمات الصحية. مع مرور السنوات، تحولت الابتسامات إلى تساؤلات، ثم إلى احتجاجات. 

ارتفاع معدلات الجريمة في بعض المناطق ذات الكثافة اللاجئة، وفق أفادت تقارير الشرطة الاتحادية، أثار مخاوف أمنية. وفي الانتخابات المحلية والفيدرالية، صعد حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) كصوت معارض يندد بـ"الفوضى الهجرية"، محققاً مكاسب انتخابية غير مسبوقة في ولايات مثل ساكسونيا وتورينغن. 

هذا التحول بلغ ذروته مع الحكومة التي ورثت إرث ميركل لكنها واجهت واقعاً مختلفاً. في 2023، أعلنت الحكومة عن حزمة إصلاحات لسياسة اللجوء، تلتها خطوات أكثر صرامة بحلول 2025. أصبحت إجراءات الترحيل أسرع وأكثر كفاءة، خاصة للمهاجرين غير الشرعيين أو أولئك الذين يُرفض طلب لجوئهم. 

تم تعزيز الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، مع اتفاقيات إعادة قبول مع دول مثل تونس وتركيا، مما قلل من تدفق القوارب عبر البحر المتوسط. داخلياً، أُدخلت قوانين جديدة تفرض شروطاً أشد على الاندماج: إجادة اللغة الألمانية كشرط أساسي للإقامة الدائمة، وبرامج تدريب إلزامية، مع عقوبات مالية للمخالفين. ومع ذلك، لم يكن التشدد شاملاً. 

يظل قانون هجرة العمالة الماهرة الذي أُقر في 2020 وتم تعزيزه في 2024، شاهداً على التوازن الذي تسعى ألمانيا لتحقيقه. في اقتصاد يعاني من نقص حاد في القوى العاملة – حوالي 1.8 مليون وظيفة شاغرة حسب إحصاءات مكتب الإحصاء الاتحادي في 2025 – أصبح جذب المهندسين والأطباء والممرضين من الهند وفيتنام وأمريكا اللاتينية أولوية قصوى. هذا القانون يسهل منح التأشيرات للمتخصصين، مع نقاط تفضيلية للمهارات والخبرة، دون الحاجة إلى عرض عمل مسبق في بعض الحالات. 

إنه نموذج يمزج بين البراغماتية الاقتصادية والحذر الأمني، فالهجرة الماهرة مرحب بها، بينما يُغلق الباب أمام "اللجوء الاقتصادي" المقنع. ما الذي دفع بهذا التحول؟ الضغوط السياسية الداخلية كانت الأبرز. استطلاعات الرأي، مثل تلك الصادرة عن معهد ألينسباخ في 2025، تظهر أن 62% من الألمان يرون الهجرة كـ"تحدي كبير"، مقارنة بـ35% فقط في 2015. 

الحوادث الأمنية، مثل هجمات كولونيا في ليلة رأس السنة 2015-2016، والهجمات الإرهابية اللاحقة، تركت أثراً عميقاً في الوعي الجماعي. أما خارجياً، فإن اتفاق دبلن الجديد داخل الاتحاد الأوروبي، الذي يفرض توزيعاً أكثر عدلاً لللاجئين، خفف العبء عن ألمانيا، لكنه زاد من التشدد في الرفض الأولي. 

في المقابل، لم تختفِ روح الترحيب تماماً. منظمات المجتمع المدني تواصل دعم اللاجئين، وبرامج الاندماج في المدن الكبرى مثل ميونيخ تحقق نجاحات ملموسة. آلاف اللاجئين السابقين أصبحوا الآن أطباء ومهندسين يساهمون في المجتمع ومعظمهم سوريين. لكن التوترات الاجتماعية تتصاعد والاحتجاجات اليمينية في دريسدن، ومظاهرات يسارية في هامبورغ تدافع عن حقوق الإنسان. 

الاستقطاب يعكس انقساماً أعمق في الهوية الألمانية بين من يرى في الهجرة فرصة للنمو، ومن يخشاها كتهديد للتماسك الاجتماعي. كوني ألماني ولكن من خلفية مهاجرة أرى أن ألمانيا قد ودّعت مرحلة الترحيب المطلق، وتتجه نحو نموذج يمزج بين الحاجة الاقتصادية المُلحة للعمالة الماهرة التي لم تنجح بها منذ اكثر من 30 سنة وتحديدا بعد حرب العراق وترحيب ألمانيا بالجالية العراقية. يظل قانون هجرة العمالة الماهرة قائماً ومطلوباً وبين التشدد الأمني والسياسي في ملف اللجوء. هذا التوازن الهش يعتمد على تنفيذ فعال للقوانين، ودعم اندماج حقيقي، وتعاون أوروبي. 

السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستنجح هذه السياسات في تحقيق التوازن المنشود بين الأمن والاحتياج الاقتصادي، أم أنها ستؤدي إلى مزيد من الاستقطاب داخل المجتمع الألماني؟ الإجابة تكمن في السنوات القادمة، لكن التاريخ يعلمنا أن الأمم العظيمة تبني قوتها على التوفيق بين المبادئ والواقع، لا على الإفراط في أحدهما. رفعت الاقلام وجفت الصحف